طيّب، كيف يمكن أن
يعلّق المرء على خطاب بمثل هذه الرّداءة؟ (الفيديو أعلاه أو الرابط التالي هنا)
أوّلا من حيث الشّكل،
لدينا هنا رئيس حزب يدّعي أنّه مدنيّ (وتحصّل على ترخيص للعمل السّياسي على هذا
الأساس) يقوم بإلقاء خطبة الجمعة من مقرّ حزبه (تكبييييييير) متناسيا أنّ القانون
لا يسمح للأحزاب بالعمل الدّيني الدّعوي ولا بإستغلال المنابر الدّينيّة للقيام
بالدّعاية السّياسيّة، وأنّ مخالفة القانون يمكن أن ينجرّ عنها حلّ هذا الحزب
تماما كما تمّ حل الحزب الحاكم السّابق.. طبعا كلّ هذا لا يعني شيئا للشيخ راشد
خاصّة وهو الفاتق النّاطق في عهد أقوى حكومة في التّاريخ. فلنكتفي إذن بقول أنّه
لا حول ولا قوّة إلاّ بالله وحسبنا الله ونعم الوكيل ولنمرّ للمضمون:
ثانيا إذن، ومن حيث
المضمون نحن أمام خطبة في غاية من الرّداءة سواء نظرنا إليها من الجانب الدّيني أو
السّياسي، وهو ما يؤكّد لديّ القناعة بأنّ هذا الرّجل كارثة متنقّلة. قلّي كيفاش؟
يبدأ الشيخ خطابه
بفكرة لطالما كرّرها وهي الحديث عن حروب الردّة التي خاضها أبو بكر الصدّيق خلال خلافته وإعتبارها حربا على أولى
محاولات "علمنة" الإسلام، أي فصل الدّين (الصلاة) عن الدّولة (الزكاة)، والإستشهاد في هذا السّياق بالخليفة أبي بكر عندما قال: "والله لأقاتلنّ من فرّق بين الصّلاة والزّكاة"، وذلك
في عمليّة إختزال تافهة وفاقدة للمنطق (وكأنّ الزّكاة ليست عبادة أو أنّها إلتزام
محمول على الدّولة ولا على عموم المسلمين) وإسقاط لواقعة تاريخيّة معيّنة بإخراجها من سياقها دون أيّ إعتبار لخصوصيّات الإطار الذي حدثت فيه.. الأخطر من هذا طبعا هو كون هذا النوع من الخطاب خطير وكارثي من حيث تبعاته
السّياسيّة (والمتحدّث هنا رئيس حزب حاكم لمن نسي منكم صفته)، فهو منطق يعني ضمنيّا وجوب محاربة العلمانيّين بإعتبارهم مرتدّين، وحمل السّلاح
على كل من يطالب اليوم بفصل الدّين عن الدّولة أو يرفض تطبيق الشريعة..
الأدهى
والأمرّ هو أنّ الشّيخ رشودة يذهب إلى ما أبعد من ذلك، فيستعمل مرارا وتكرارا
مصطلح "الدّولة الشرعيّة" و"الحكومة الشرعيّة" في حديثه عن حروب الردّة بقيادة أبي بكر الصدّيق لكي يقارب لغويّا وفكريّا بينها وبين "الحكومة الشرعيّة" متاع النهضة، ولكي يبرّر بعد ذلك بصريح
العبارة إمكانيّة القمع المسلّح ضدّ كل من قد يقوم ضدّها أويرفض سلطانها، حتّى
أنّه (ولست أدري إن كانت زلّة لسان) يذهب إلى حدّ وصف الخليفة أبي بكر بكونه
"الحاكم الشّرعي المنتخب" (هكذا!)، ولهنا
ما نعرفش بصراحة إذا كان الإنتخابات إلّي طلع فيها أبو بكر الصدّيق نظّمها وقتها كمال الجندوبي أم غيره،
ولكن الأكيد أنّه حتّى حدّ من المؤرّخين ولا من الفقهاء ما ذكر أنّه شاف وقتها
المسلمين خارجين من بيوت الإقتراع أفواجا وصوابعهم مطليّة بالحبر الأزرق، اللهمّ
الغنّوشي عندو معلومات يجهلها عموم المسلمين في هذا الخصوص.
بعد هذا ينتقل رئيس
الحزب الحاكم إلى محور ثان في خطبته ألا وهو عموما فكرة أنّ سبب البطالة في البلاد
هوما البطّالة إلّي ما يحبّوش يخدمو في المرمّة والشّوانط في حين الحكومة قايمة
بإنجازات عظيمة في ميدان التشغيل (وطبعا ما حكات على هالإنجازات كان قناة
"الجزيرة" مثال الإعلام الحرّ والمحايد).. يعني بعد "القنّاصة إشاعة"،
هاذي رواية أخرى تستحقّ أن تدخل لقائمة المقولات المأثورة لفترة ما بعد
"الثورة": البطالة في تونس إشاعة!
المحور
الثالث والختامي لخطبة الشيخ كان موضوعه ردود الفعل على
الإساءة للرسول (صلعم) وما حصل بعدها من إعتداء على السفارات الأمريكيّة في بلاد العربان ومنها
تونس المحروسة.. طبعا لهنا الشيخ ما يقولش لجمهوره ما تداولته عدّة مصادر من أخبار مفادها
أنّه هو شخصيّا من كان وراء قرار السماح للمتظاهرين بالوصول أمام السفارة
الأمريكيّة دون رقيب ولا حسيب، طبعا هذا موش مهمّ، المهمّ بالنّسبة للشيخ هو أن يذكّر في خطبته بأنّ
الإسلام والتقوى يقتضيان "الإلتزام بمعاهداتنا الدوليّة"، وأنّها ردود الفعل ما
يلزمش تكون متهوّرة وأنّ الحرق والتخريب متاع السّفارات حاجة غير لائقة.. إمممممم..
فعلا هاذم هوما رجال الدّولة إلّي عندي مدّة نلوّج عليهم. يحبّ يقول يا شيخ أنّها أعمال
التخريب هي أعمال هوجاء، ولكن أعمال من يأمر بترك المئات من السلفيّين الجهاديّين وأنصار
تنظيم القاعدة يتظاهرون أمام باب السفارة الأمريكيّة بدون أيّ تدخّل من الأمن، هذا
طبعا يتسمّى إنجاز عظيم يجعلكم ترتقون -رضي الله عنكم- إلى مصافي عظماء السّياسة
في العصرين القديم والحديث..إممممم..
نفهم فيك، كلامك معقول جدّااااا.
وهكذا
صديقي القارئ تنتهي خطبة الغنّوشي، وكان مسك
ختامها دعاؤه –رضي الله عنه- بالنّصر لإخوانه ثوّار سوريا (ولا كلمة طبعا، ولا
دعيوة خير لإخوانه في فلسطين إلّي يبدو أنّه سهى عن ذكرها أو أنّها ما عادش من
الأولويّات، أو لعلّها تحرّرت بعد دعاء منه خلال خطبة الأسبوع الفارط ونحنا ما
سمعناش بيها)..
لهنا طبعا يكون
الإنسان (ولئن كان بسيط العقل كأغلبيّة أتباع حزب الشيخ) فهم أنّ الحديث المطوّل
الذي جاء في هذه الخطبة (خطبة الجمعة بجامع "مقرّ حركة النهضة بمونبليزير"
المعمور) لا يعدو أن يكون مجرّد تلفيق لأدبيّات إسلاميّة نعرف جميعا أدقّ تفاصيلها،
وذلك بغرض خدمة فكرة واحدة هي فكرة السّلطة والإستمرار في الحكم بكلّ الوسائل، مرّة بشرعنة العنف ضدّ الخصوم السياسيّين، ومرّة بالضحك على الذقون وإنكار مشاكل البلاد وإدّعاء إنجازات لم تنجز ونجاحات لحكومة لم تعرف سوى الفشل، ومرّة أخرى بالتملّص من المسؤوليّة وإلقاءها على متظاهرين تمّ حشدهم وإيصالهم حتى باب السّفارة ومن بعدها إلقاء اللوم عليهم وزجّهم في السّجون بتهم تصل أحكامها للإعدام، ولهنا فقط يمكنني أن أضمّ صوتي لصوت الشّيخ بالدّعاء عندما يقول "اللهمّ بارك
في ثوراتنا وبلّغها مقاصدها"، ولعلّي أضيف: "وأحمها يا ربّنا من
الغنّوشي ومن أمثاله إنّك سميع عليم"!