صرّح رئيس الحكومة حمادي الجبالي يوم البارحة (المصدر) للمرّة الخمسة وعشرين بعد الميتين ألف منذ حصول حركة النهضة على تأشيرة العمل السياسي القانوني بأنّ تونس سوف تتحوّل (بقدرة قادر) إلى مركز إقليمي للتمويل الإسلامي، وهو نفس التصريح الأقرب إلى الشعارات الإنتخابيّة الفضفاضة منه إلى سياسات واقعيّة الذي سمعناه مرارا وتكرارا من مسؤولين نهضاويين متعدّدين.
في كلّ مرّة أسمع مثل هذ النوع من التصريحات لا أملك إلاّ أن أطرح على نفسي بعض الأسئلة البسيطة لعلّ أحدهم يجيبني فأكون له من الشاكرين. على خاطر مثل هذه الإعلانات والشعارات الجميلة تحتاج إلى تقديم حدّ أدنى من المحاججة والبيان، لكي نفهم المقصود منها أوّلا، ولنقيّم إذا ما كانت فعلا أشياء سوف تحقّقها الحكومة على أرض الواقع يوما ما أم أنّها تأتي على سبيل البلّوط واللغة الخشبيّة.
أوّل حاجة تتبادر لذهني كيف يحكي رئيس الحكومة على "مركز إقليمي"، سواء كان للماليّة الإسلاميّة أو لـمرقة اللوبيا، هو: عن أيّ إقليم تتحدّث يا سيّدي؟؟ على خاطر المركز الإقليمي هو حسب ما أعلمه المكان الذي يتفوّق ويتميّز على غيره في نشاط معيّن في إقليم معيّن.. فهل يقصد الجبالي أنّ تونس سوف تصبح مركزا للماليّة الإسلاميّة في إقليمها المتوسّطي أم المغاربي أم الإفريقي أم الشمال إفريقي أم العربي؟؟ السؤال هذا ماهوش إعتباطي، على خاطر باش تتفوّق على الدول التي تشاركك محيطك الإقليمي وتتحوّل بالتالي لمركز إقليمي من دون بلدان ربّ العالمين يلزم تكون عندك إمتيازات تخلّيك قادر على التفوّق على بقيّة الدّول. فما هي الإمتيازات التنافسيّة للإقتصاد التونسي بالمقارنة مع محيطه الإقليمي (العربي أو المغاربي أو غيره) لكي يصبح "مركزا إقليميّا للتمويل الإسلامي"؟؟
هل يقصد الجبالي أنّنا أكثر خبرة من الدول الأخرى في مجال التمويل الإسلامي في حين أنّ هذا القطاع مازال في خطواته الأولى في تونس مقارنة بدول عربيّة أخرى؟ أم أنّه يقصد أنّنا أصبحنا بفضل إشاراته الربّانيّة أكثر إسلاما من أشقّائنا وأجوارنا المسلمين وأنّ بنوكنا الإسلاميّة سوف تكون بالتّالي أكثر إسلاما من بنوكهم الإسلاميّة؟ ولكن من يدري؟ لعلّه لم يقصد لا هذا ولا ذاك.. آشكون يعرف، بالكشي يقصد أنّها بلاد على حافة الإفلاس كيما تونس (إلّي نفس الحمّادي الجبالي رئيس حكومتها كان يساسي في "يا كريم متاع الله" من بلاد لبلاد) عندها أكثر سيولة وقدرات ماليّة من جيرانها من الدول الغنيّة بالغاز والبترول حتى تصبح مركزا إقليميّا يشعّ على محيطه بتمويلاته الإسلاميّة..
كيما تشوفوا، يبدو من الصعب أنّك تدّعي القدرة على تحويل بلاد لا عندها لا بزايد معرفة وخبرة في الصيرفة الإسلاميّة، ولا عندها بزايد فلوس، ولا عندها بزايد إسلام مقارنةً بمحيطها الإقليمي، سواء على المدى المتوسّط أو حتى البعيد، إلى مركز إقليمي للتمويل الإسلامي.. ولكن شكون يعرف؟ مع الإشارات الربّانيّة حتّى شي ماهو صعيب!
يبقى أخيرا إحتمال آخر أعتقد أنّه أقرب للواقع، وهو أن يكون المقصود بمثل هذه التصريحات أنّنا سنصبح من كبار مستهلكي التمويلات الإسلاميّة، أي أنّنا سنصبح مركزا إقليميا للتداين على الطريقة الإسلاميّة من عند دول الخليج وصناديق الإستثمار متاع بوكشطة، ونبيعوا البلاد للأمراء والشيوخة بالضبط كما كان بن علي مسلّم فيها وعاطيها وَفقة للعائلة والأنساب، ولكن ذلك موضوع مختلف تماما ولا يمكن بأي حال وصفه بالمركز الإقليمي للتمويل الإسلامي! في أقصى الحالات يولّي إسمو مركز إقليمي للكريدي الإسلامي، ولا مركز إقليمي للشحاذة لصناديق التمويل الخليجيّة!!
يا سيّدي رئيس الحكومة، حملاتكم الإنتخابيّة إنتهت وولّت، وأنتم اليوم في الحكم وننتظر منكم الإنجاز والنتائج، وحتّى إعلانات النوايا والسياسات المستقبليّة ما عادش يكفي أنّها تترفع في شكل شعارات هلاميّة.. يا خويا ماك قلت راهو عندي الحلول والإشارات الربّانيّة وما نسلّكهالكم كان أنا بحول الله.. هيّا سيدي: هذا الحصان وهاذي السدرة.. ولكنّنا لحدّ الآن ما شفنا منكم كان سوء الإدارة والشعارات وكيل الإتّهامات لغيركم بحطّان العصى في العجلة، وهو لعمري أسهل عذر يمكن أن يجابه به سياسيّ فاشل فشله!
على حسب ما نتذكّر حتّى من المخلوع كان قدّم نقطة من نقاط برنامجه الإنتخابي لسنوات 2009-2014 تحت عنوان " تونس قطب للخدمات المصرفية وساحة مالية اقليمية" لا بل وزاد عليها نقطة أخرى تحت عنوان "تونس مركز للتجارة العالميّة"، فكان أن سقط نظامه على رأسه ورأس من والاه بالضبط كما سقط "مركز التجارة العالميّة" في نيويورك على رؤوس ضحايا عمليّات 11 سبتمبر 2001. لعلّ ذلك كان أيضا من الإشارات الربّانيّة التي يجب الإعتبار منها!